الأربعاء، 23 أبريل 2014


(المنهج الاجتماعي)
نص نقدي : "الواقع الاجتماعي في الشعر"
(محمد عويس محمد)

يعد المنهج الاجتماعي أحد أهم المناهج النقدية الحديثة التي تأثر بها النقاد العرب المحدثون، وهو منهج ينظر إلى النص الأدبي باعتباره وثيقة اجتماعية، ويربطه بالوسط الاجتماعي الذي أنتج فيه. وقد اعتمد هذا المنهج في دراسة الظاهرة الأدبية، وبيان علاقتها بسياقها الاجتماعي، عدد من النقاد المشارقة والمغاربة، منهم: "طه حسين"، و"محمد مندور"، و"نجيب العوفي"، إلى جانب "محمد عويس محمد" - صاحب هذا النص -  الذي وظف هذا المنهج في كثير من دراساته، ولعب دورا مهما في تطويره، وإبراز علاقة الأدب بالمجتمع، وخير شاهد على ذلك النص الذي بين أيدينا. فما موضوعه  أو القضية التي يطرحها؟ وكيف طبق الناقد المنهج الاجتماعي على أشعار كل من أحمد شوقي وحافظ إبراهيم؟ وما  النتائج التي انتهى إليها؟  
يتضح بعد قراءتنا النص قراءة متأنية، أنه يعالج  موضوعا يتتمثل في بيان علاقة شعر الشاعرين "حافظ إبراهيم" و"أحمد شوقي" بالواقع الاجتماعي المصري في مطلع القرن العشرين، والكشف عن هذا الواقع. ويمكن تفكيك هذا الموضوع المحوري إلى مجموعة من الموضوعات والأفكار الجزئية المترابطة فيما بينها، وهي كما يأتي:
·     تأكيد الكاتب وجود علاقة تفاعل نسبي بين الشاعر والواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه.
·     إبرازه الفرق بين رؤية "حافظ" ورؤية "شوقي" لمصر ولواقعها الاجتماعي.
·     ذكره أسباب اختلاف رؤيتي الشاعرين للإصلاح.
·     الإشارة إلى اتفاق الشاعرين في الشكل العام والهدف، واختلافهما في المضمون .     
ويتضح مما سبق أن الناقد حلل شعر الشاعرين "حافظ" و"شوقي" باعتماد المنهج الاجتماعي، حيث كشف عن البعد الاجتماعي لشعر هذين الشاعرين، وأبرز علاقته بالواقع المصري الذي أنتج فيه، وبين رؤية كل واحد منهما لمصر ولواقعها الاجتماعي، وذلك من خلال شعرهما.
كما اعتمد في بناء نصه طريقة استنباطية (الانتقال من العام إلى الخاص) جعلته خاضعا لتصميم منهجي محكم، حيث استهل نصه بإبراز العلاقة التي تربط الشاعر عامة بالواقع الذي ينتمي إليه. ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن علاقة شعر الشاعرين المصريين حافظ وشوقي خاصة بالواقع الاجتماعي لمصر خلال مطلع القرن العشرين. وختم نصه بالإشارة إلى اتفاق الشاعرين في الشكل العام والهدف رغم اختلافهما في المضمون.  
واستخدم الكاتب لغة نقدية تقريرية مباشرة واضحة، تلائم طبيعة النص النقدية، وتخدم غرض الناقد المتمثل في إيصال أفكاره إلى المتلقي وإقناعه بها. كما وظف مجموعة من المصطلحات والمفاهيم النقدية التي تحيل إلى المنهج الاجتماعي المطبق في النص، كالواقع الاجتماعي، والإصلاح، والظواهر الاجتماعية، والشعب.
كما استعان الناقد بعدد من أساليب الحجاج ووسائل الإقناع، مثل الشرح والتفسير (إبراز رؤية حافظ وشوقي لمصر ولواقعها الاجتماعي)، والمقارنة (بين الشاعرين حافظ وشوقي)، والاستشهاد (بشعر حافظ وشوقي)، والتمثيل (بحافظ وشوقي)، والتعليل (لأن هدفهما كان واحدا...)، والإثبات والنفي (كان تركيزه على كشف...وهو لم يغفل...)، والاستدراك (لكنه)، والتأكيد (بأن رؤية – لقد طالب...).  
ووظف مجموعة من الوسائل التي حققت للنص اتساقه وتماسكه، وأكسبته قوة تأثيرية وإقناعية، كحروف العطف (الواو، الفاء، أو...)، والأسماء الموصولة (اللائي، التي، اللواتي...)، وحرفيْ التعليل والاستدراك (لأن، لكن...)، وأسماء الإشارة (هذا، هذه، هنا...)، والضمائر (هو، هي، هن...)، والتكرار (الواقع الاجتماعي، المجتمع، مصر...)، والتقابل (التأثير # التأثر – الثبات # الحركة – اتفقا # اختلفا).
وليس هذا النص متسقا فحسب، بل هو منسجم كذلك، وإذا كان اتساقه تحقق بالأدوات الظاهرة المذكورة، فإن انسجامه تحقق بروابط أخرى غير ظاهرة، جعلته قابلا للفهم والتأويل، مثل سياق النص الذي يتمثل في النقد العربي الحديث المنفتح على المناهج النقدية الغربية الحديثة والمتأثر بمناهجه، خاصة المنهج الاجتماعي. وإلى جانب السياق نجد في النص مجموعة من القرائن النصية المحلية التي يؤول بعضها بعضا، والتي تحقق للنص انسجاما خفيا، وفي مقدمة هذه القرائن المصطلحات الموظفة في النص (الواقع الاجتماعي، المجتمع، الشعر...). أما مبدأ التغريض الذي يتحدد بكونه النقطة المحورية التي يدور حولها النص، والتي تعين غرضه، فتتمثل هنا في عنوان النص: "الواقع الاجتماعي في الشعر"، حيث إن غرض الناقد، انطلاقا من هذا العنوان، هو الكشف عن الواقع الاجتماعي في الشعر.     
يتضح مما سبق، أن الكاتب حاول في هذا النص الكشف عن الواقع الاجتماعي في شعر حافظ وشوقي، في مطلع القرن العشرين، وذلك باعتماد المنهج الاجتماعي، واستخدام لغة تقريرية نقدية، وتوظيف أسلوب حجاجي، والاستعانة بمجموعة من الروابط الظاهرة والخفية التي حققت للنص اتساقه وانسجامه.
غير أن المنهج الاجتماعي وإن كان قد مكن الكاتب من الكشف عن الواقع الاجتماعي في شعر حافظ وشوقي، إلا أنه يظل عاجزا عن الإحاطة بالعمل الأدبي من كل جوانبه، لأنه يهتم بجانب واحد من جوانبه، هو جانب المضمون، ولا يلتفت إلى بنية النص الداخلية، وإلى جوانبه الفنية والجمالية التي يعتبرها جوانب ثانوية.


ملاحظة: التحليل توصلت به بواسطة الأستاذ الفاضل السيد الطيب هلو، وهو تحليل لنص محمد عويس محمد، تحت عنوان "الواقع الاجتماعي في الشعر" وهو موجود في كتاب "في رحاب اللغة العربية للسنة الثانية بكالوريا"، يقارن فيه بين شعر شوقي وحافظ إبراهيم.)

تحليل مؤلف ظاهرة الشعر الحديث مع الأستاذ خالد مساعف

أحمد زنيبر- سؤال الذات في الشعر العربي الحديث

2emebac الثانية باك-العربية-تكسير البنية

المستوى الثانية باك أداب اللغة العربية: المناهج النقدية

تحليل نص نقدي (البنيوية) :
 "بنية التوتر" لمحمد مفتاح
  لقد عرف النقد العربي المعاصر تطوراً ملحوظاً، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لعوامل يأتي في مقدمتها انفتاحه على نظيره الغربي، وتأثره به، واستفادته من مناهجه ونظرياته. ويعد المنهج البنيوي واحداً من هذه المناهج؛ وهو طريقة في القراءة تدرسُ النص من الداخل، بوصفه بنية أو نسَقاً لغوياً مكوَّناً من عناصر تنتظم وَفق شبكة من العلاقات، ولا تُولي اهتماماً للعوامل الخارجية. ويَستقي هذا المنهجُ أسُسَه ومفاهيمَه من علم اللغة الحديث (اللسانيات). وقد توسَّل به عددٌ من نقادنا في دراسة الظاهرة الأدبية، وتحليل بنيتها من خلال الوقوف عند مستوياتها المختلفة؛ مثلما فعل كمال أبو ديب، ومحمد مفتاح الذي وظف هذا المنهج في كثير من دراساته في مجال النقد الأدبي منذ أوائل الثمانينيات.
    إن نص "بنية التوتر" للناقد المغر بي محمد مفتاح نموذجٌ واضح للدراسات التحليلية البنيوية، التي تعالج النص من الداخل، دون التفاتٍ إلى تأثيرات خارجيّاته. وتؤكد ذلك بعضُ مشيرات النص الدالّة، ولاسيما عنوانه وبدايته. وانطلاقاً من هاتين العَتَبَتيْن، نفترض أن يُفرِد مفتاح نصَّه هذا لتحليل بيت ابن عبدون الأندلسي تحليلاً بنيوياً، ودراسته من جوانبَ داخليةٍ مختلفة، للوقوف على مظاهر التوتر والخَرْق فيه. فكيف تم له ذلك؟ وما المستويات التي تناولها ؟ وإلى أي حدٍّ يستطيع المنهج البنيوي تقديم قراءة وافية للنص، قادرة على إضاءته والإحاطة به؟
       يتضح أن الدارس يعالج بيتاً واحداً لابن عبدون معالجة داخلية، تعامَل معه باعتباره بنية لغوية ذات مستويات متدرِّجة، وتوخّى كشْف تجلّيات التوتُّر فيه. إذ استهلّ  بالإفصاح عن مُنطلَقه ومنهاجه، ثم انتقل مباشرةً إلى مقاربته بادئاً بدراسة بنيته الصوتية، مُسجِّلاً هيْمنَة بعض الأصوات المتشاكِلة فيه، وهي أصوات الحلْق الدالة على معنيَي؛ الحزن والزَّجْر اللذين . وإلى جانب وظيفتها التعبيرية، فإن لتلك الأصوات وظيفةً أخرى تنظيميةً وإيقاعية. وبالنظر إلى سياق البيت وبُعْده الدلالي، فقد كان متوقعاً أن تحضر فيه، بكثافة، حركة الكسْرة، بوصفها صائتاً مناسباً للتعبير عن الانكسار والحزن والفاجعة، ولكنّ تلك الحركة قلّت في البيت؛ لأنه، في نظر الناقد، لا يدل على اللطف والصِّغَر. وقسّم مفتاح إيقاع البيت الداخليَّ، ولاسيما المؤسَّس على ظاهرة التَّكرار، إلى ما يكون فيه تكرار الأصوات حُرّاً اختيارياً، وإلى ما يكون فيه الشاعرُ مُلزَماً باحترام تقاليد القصيدة العربية القديمة في هذا الصَّدد.
       ولم يقفِ الناقد عند حُدود تحليل البيت من جانب أصواته (صوامت وصوائت)، بل انتقل إلى دراسته من الناحية المعجمية؛ فلاحَظ أن أكثر ألفاظه مُستقىً من حقل الرثاء المعروف في تاريخ الشعر العربي، وأن ثمة مبدأ تحكَّم فيها؛ هو "التداعي بالمقاربة".
وأكد مفتاح، عقب ذلك، أن تناوُل البيت صوتياً ومعجمياً فقط غيرُ كافٍ لفهْمه والوقوف على أسْراره، بل يلزم الانتقال إلى دراسته من الناحية التركيبية سواء النحوية أو البلاغية؛ فحاوَل تحليل بيت ابن عبْدون من هذه الزاوية، وأبرز مختلِف مظاهر التشويش والتوتر والخَرْق على مستوى تركيبة البيت، واجتهد في تعليله وتسْويغه.
        وقد اعتمد الناقد، في بناء نصه، خطة منهاجية استنباطية كشفت عن وحدة النص الموضوعية، وجعلتْه خاضعاً لتصْميم واضح؛ بحيث بدأه بطرْح عامّ قدّم خلاله منطلقه في تحليل البيت، ومنهجه في دراسته، ثم انتقل إلى مقاربته بدءاً بأصواته فمعجمِه ثم تركيبه، ولم يختمْه بخاتمة يضمِّنُها نتيجة مقاربته تلك!
      واستخدم لغة دقيقة تقريرية مباشرة خالية من التصوير الفني ومن أساليب التكلف، تلائم طبيعة النص، وتخدم مقصدية كاتبه. كما ضَمَّن نصَّه جملة وافرة من المفاهيم والمصطلحات النقدية التي تُمِتّ بصلةٍ إلى المنهج المعتمَد في تناوُل بيت ابن عبْدون؛ من مثل: التشاكل، والتبايُن، والبنية، والأصوات، والمعجم، والتركيب، والرتبة، والإسناد.
     كما توسّل بجُمَل طويلة أو مركّبة في الغالب الأعمّ، وبعددٍ من الأساليب الحِجاجية/ الاستدلالية؛ كالشرح والتفسير، والتعليل، والوصْف، والتوكيد، والقياس... وبكثيرٍ من الوسائل التي حققتْ للنص اتساقه وتماسكه، وأكْسبته قوة تأثيرية وإقناعية؛ كحروف العطف، والأسماء الموصولة، والإحالة بمختلِف أنواعها (وهي تتحقق، أساساً، بالضمائر وأسماء الإشارة)، وأسلوب الشرط، والتكرار، والتقابُل.
       وليس النص المدروس، هنا، متسِقاً فحسبُ، بل إنه منسجمٌ كذلك، وتحقق ذلك بروابطَ أخرى غير ظاهرة، وبمُراعاة مبادئ وعمليات جعلته قابلاً للفهْم والتأويل. فعلى مستوى السياق العام، فالنصُّ الماثلُ أمامَنا منسجمٌ يندرج في سياق انفتاح النقد المغربي المعاصر، وتأثره بالمناهج الحديثة ، ولاسيما  البنيوية. وعلى مستوى التأويل المحلّي، نجد في النص عدة عناصر تقيِّد الطاقة التأويلية لقارئه؛ كما في السطر الأول الذي حدّد فيه الناقد بعضَ معالم قراءته للبيت قيد التحليل. وعلى مستوى التشابُه، فانسجامُ هذا النص متحقق من خلال استحْضار جملة من التجارب النقدية العربية المعاصرة التي عمدت إلى معالجة النصوص بمنظار بنيوي (أبو ديب مثلاً). وعلى مستوى التغريض، نخلص إلى أن نقطة التمرْكُز التي يتمحْوَر حولها النص كلُّه، والتي تتجمّع حولها مختلف عناصره، هي بيت ابن عبدون الذي سعى مفتاح إلى إضاءَته وتحليله من ثلاث زوايا أساسية كما رأينا آنِفاً.
    انطلاقاً ممّا تقدّم كله، يتبيّن أن الكاتب قد حلل في نصه هذا بيتاً شعرياً من بعض مستوياته الداخلية، مستهدِفاً كشْف بنية التوتر فيه؛ وذلك باعتماد لغة نقدية مباشرة، وأسلوب حجاجي إقناعي، وجملة من الروابط الاتساقية والانسجامية.
     والواقعُ أن منهج الكاتب في تناول ذلك البيت، وإنْ كان قد أسْعَفه في تفكيكه ودراسته داخلياً من جوانب عدة، إلا أنه يظل قاصِراً غيرَ قادر على الإحاطة بالمقروء من جميع زواياه. فهو يقاربُ النص من حيث بنيته الداخلية وشكلُه، دون التفاتٍ إلى إحالاته ومرجعياته الخارجية التي لا يمكننا، بأي حال، إغفالها وتجاهلُ أثرها في تشكيل العمل الأدبي. بأسلوب آخر، فإن المنهجَ البنيوي يقرأ النص من الداخل تاركاً خارجَه، بخلاف المنهج الاجتماعي، مثلاً، الذي يقرؤه من الخارج بالأساس.
مصدر النص: "في رحاب اللغة العربية" للسنة الثانية، وهو مأخوذ من مؤلف محمد مفتاح: "تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)" ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.2، 1986، ص175-177، بتصرف
تحليل قصيدة في سؤال الذات (إدريس الجاي) التحليل للأستاذ الأخ الفاضل مشكورا فريد أمعضشو منشور في طنجة الأدبية. منقول للفائدة جازاه الله خيرا عن هذا العمل


     
دخل الشعر العربي الحديث ،بعد الإحيائيين، مرحلة جديدة عمل شعراؤها على تحديث القصيدة العربية وتجديدها وتطويرها مضموناً وشكلاًK مُسايريـن بذلك التحولات الكثيرة التي شهدها الوطن العربي في مجالات عديدة، و متأثرين بالشعر الغربي الذي أعْـقب الشعر الكلاسيكي. و هكذا، جاءت أشعارُهم متمحْورةً حول الذات المُبْـدعة، ومتحرِّرة ، بدرجات متفاوتة، من تقاليد القصيدة العربية القديمة. و قد انتظم الشعراء الرومانسيون العرب في تيارات معروفة (جماعة الديوان – تيار الرابطة القلمية – جماعة أبّولو)، و انتشروا في مناطق متعددة مشرقاً و مغرباً و مهجراً. و من هؤلاء في المغرب الشاعر إدريس الجاي (1923 – 1978م) الذي أقام مدة من الزمن في فرنسا، أتيحَ له خلالها الاطلاعُ على آثار بعض الرومانسيين الغربيين، من أمثال فيكتور هيجو و لامارتين، و قد ترك ديواناً شعرياً عنوانُه "السوانح"، قدّم له المرحوم عبد الله ﮔنون، و صدرت طبعته الأولى عام 1971، والثانية عام 1998 بالرباط. والقصيدة التي نحن بصدد دراستها، من النصوص التي اقتطفت من هذا الديوان. فما ملامح التّوجُّه الرومانسي/ الذاتي فيها؟  وما مظاهرُ حضور الذات فيها؟ و إلى أيّ حدّ تعكس خصائص الاتجاه الشعري الوُجْداني مضموناً و شكلاً؟

      تُعلن القصيدة المدروسة عن انتمائها إلى هذا الاتجاه منذ أولى عتباتها، و هي العنوان الذي ورد في صورة جملة اسمية مكوَّنة من وَحدتين رئيستيْن تُحيلان إلى ثيمتيْن مركزيتين في الشعر الوجداني؛ أولاهما (تأملات) تشير إلى الذات الفردية، و الثانية (الساحل) إلى الطبيعة. و تؤيّد كلامَنا هذا مؤشراتٌ أخرى من خارج النص (كصاحب النص) و من داخله (كالبيت الثالث مثلا)، إلى جانب هيكلها وشكلها الهندسي الذي جمع بين التقليد والتجديد؛ إذ حافظ على نظام الشطرين المتناظرين المعروف في الشعر القديم، و لكنه قام على نظام المقاطع ونوَّع في القوافي وأحرف الروي.
    
      ويتضح لنا، بعد قراءة القصيدة بتأنٍّ، أن الشاعر يصف حزنَه وقلقه وحيْرته أثناء وقوفه على الساحل خاشعاً متأمِّلا مُناجياً الطبيعةَ بعد أنِ اخْتلى وفرّ من عالم الناس المَليء بالمظاهر السَّلبية قاصِداً شاطئَ البحر ،حيث الحياة والهدوء والسكونُ، ليَتوَحّد معه ويذوب في غمرته، وليَـبُثه أحزانَه علَّـه يُخفِّف عنه معاناتَه. والواقعُ أن القصيدة يحْكُمها موضوع واحدٌ، رغم انطوائها على جملة من الأحاسيس والمعاني الجزئية التي تتضافر لخدمة ذلك الموضوع العامّ (التعبير عن تجربة ذاتية). وتجسِّد هذه الخَصيصة إحدى أهم مِيزات الشعر الوجداني على المستوى البنائي (الوحدة الموضوعية والعُضوية.
    وقد تجسّدت هذه المعاني من خلال تواتُر حقلين دلاليين أساسيين في النص؛ أحدُهما مرتبط بالذات الشاعرة، وهو المُهيْمِن، وتدل عليه ألفاظ كثيرة منها: وقفت – خَشوعاً – أناجي – غصني – وحيداً – تأوّهت – أذهل – خلوت – أسائل... والآخرُ مرتبط بالطبيعة، ولاسيما الصامتة، وتدل عليه ألفاظ نصّية عدة منها: الساحل – الرمال – الثمار – الشاطئ – البحر – النجوم – الليل... وبين الحقلين ترابطٌ واضح يَصِلُ حدَّ الذوبان و توحُّد الذات في سكون الطبيعة؛ كما يدل على ذلك مضمونُ المقطع النصيّ الأخير (نظرية الحلول). إن لغة القصيدة سَلِسَة سهلة مثل حياة الطبيعة تماماً، وتمتحُ من التجربة ومن قاموس الطبيعة لا من القاموس الشعري القديم كما لدى الشعراء الإحيائيين المقلِّدين لأسلافهم. و تلك خاصية أخرى من خصائص الشعر الذاتي على مستوى المعجم اللغوي.

      وللتعبير عن تجربته الوجدانية، توسَّـل الشاعرُ بعدد من الصور البَيَانية التي صاغها خياله التوليديّ الخصبُ؛ من مثل الصورة التشبيهية الواردة في البيت الثامن (بِتُّ كالساحر أبَخّر من همَساتِي العِطَر)، والصورة الاستعارية في البيت الخامس عشر (فكان الصدى أخرساً لا يَبين)، والصورة المَجازية في عَجُز البيت الثالث (أصيد من الوَهْم عاتيَ الخيال). كما زاوج ،أسلوبياً، بين الخبر – و هو المهيمن في القصيدة لرغبة الشاعر في إخبارنا بمعاناته وبما يختلج في نفسه من إحساساتٍ – والإنشاء الذي تجَلى في استخدامه أسلوبَ الاستفهام في المقطعين الثالث والرابع للتعبير عن قلقه وحيرته وتمزقه النفسي.

      من الناحية الإيقاعية، نَظَمَ الشاعـر نصّه كلَّه على منوال المتقارب التام الذي يقوم نَسَقه الموسيقي على تكرار تفعيلة "فعولن" ثماني مراتٍ، و هو بحر خليلي صافٍ يمتاز بتقارب أجزائه و برنّته الواضحة، ناسَب إلى حد كبير موضوع القصيدة الوجداني، ونوَّع قوافيَه؛ بحيث جاءت قافية المقاطع 1 و 4 و 5 مقيّدة مترادفة، على وزن (-00)، مُرْدَفة بالألف تارة وبالياء تارة وبالواو تارة أخرى، وجاءت قافية المقطعين 2 و 3 مقيدة، من المتدارك، على وزن (-0- -0)، وغير مردفة. ويأتي تنوّع قوافي القصيدة تابعاً لتعدد معانيها الجزئية وتبدّلها. كما تتميز القصيدة بتنوع أحرف الروي فيها بين اللام والراء والميم والنون والعين، وهي أحرف متجانسة تلائم موضوع القصيدة. وتتأسَّس موسيقى النص الداخلية على التَّكْرار بأنواعه؛ إذ تكررت فيه جملة من الأصوات الهامسة ،كالسين مثلا (29 مرة)، والتي تكشف عن حالة الشاعر الوجدانية، ومن حروف المَدّ التي يمتدّ الصوت عند تحقيقها مصوِّراً هذه الحالة الحزينة، ومن المفرَدات (الشاطئ – سكون – الصدى- الليل...)، ومن العبارات؛ كما في البيت الثاني عشر (أهذا من الأمس ذكرى). و لظاهرة التكرار وظيفة مزْدوجة في النص؛ إحداهما دلالية تتمثل في تأكيد معانٍ بعينها والرغبة في ترسيخها في الأذهان، والأخرى إيقاعية تتجلى في خلق انسجام صوتي داخل القصيدة وفي إثراء جَرْسها الموسيقي. وقد أسهمت في تأدية هذه الوظيفة كذلك ظاهرة التوازي، ومثالها البيت 12 (تواز تركيبي تام + تواز دلالي بالتضادّ + تواز أفقي أحادي)، وكذا الجِناس؛ مثلما نجد بين كلمتي "الساهر" و"الساحر" (جناس غير تامّ).
       اِنطلاقاً مما سبق، يتبدّى لنا الحضور القوي للذات في القصيدة المدروسة؛ ذلك بأن الشاعر عبّر فيها عن تجربته الوُجدانية وعن حيرته وقلقه وتمزُّقه وعلاقته بالطبيعة المُحيطة به؛ بوصفها مرآةً عاكسة لتجربته تلك، وملاذاً له من قسوة الواقع وصَخَبه. وعليه، فالقصيدة اتخذت لها موضوعاً واحداً جديداً جعل الذات الشاعرة بُؤرته، بعيداً عن الأغراض التقليدية المعهودة. واعتمد الجاي  معجماً متحرراً من صرامة لغة الأقدمين وصلابتها، وصوراً فنية تمتح من التجربة لا من الذاكرة وتروم التعبير عن ذاتية الشاعر، وإيقاعاً موسيقياً حافظ على بعض أصول القصيدة العربية القديمة (كوحدة الوزن)، وخَرَق أصولاً أخرى (عدم التقيُّد بوَحدة القافية و الروي).

      وفي الختام، نخلص إلى أن هذه القصيدة أنموذجٌ للشعر الوُجداني، تمثلت خصائصه المضمونية والفنية، و إن صاحبَها ليعدّ واحداً من ممثِّلي هذا التيار الشعري في المغرب وأعلامه البارزين إلى جانب محمد الصبّاغ (من دواوينه التي يطغى عليها النَّـفَس الرومانسي نذكر "شجرة النار" و"أنا والقمر" و"شجرة محار" و"دفقات")، وعبد المجيد بنجلون؛ صاحب ديوان "براعم" (1964)، وعبد الكريم بنثابت؛ صاحب ديوان "الحرية" (1968)، والراحل مصطفى المعداوي الذي تأثر في كثير من نصوص ديوانه بالشعراء المَهْجَريّين، ولاسيما فيما يخص كيفية تعامله مع الطبيعة.