الأربعاء، 23 أبريل 2014

تحليل نص نقدي (البنيوية) :
 "بنية التوتر" لمحمد مفتاح
  لقد عرف النقد العربي المعاصر تطوراً ملحوظاً، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لعوامل يأتي في مقدمتها انفتاحه على نظيره الغربي، وتأثره به، واستفادته من مناهجه ونظرياته. ويعد المنهج البنيوي واحداً من هذه المناهج؛ وهو طريقة في القراءة تدرسُ النص من الداخل، بوصفه بنية أو نسَقاً لغوياً مكوَّناً من عناصر تنتظم وَفق شبكة من العلاقات، ولا تُولي اهتماماً للعوامل الخارجية. ويَستقي هذا المنهجُ أسُسَه ومفاهيمَه من علم اللغة الحديث (اللسانيات). وقد توسَّل به عددٌ من نقادنا في دراسة الظاهرة الأدبية، وتحليل بنيتها من خلال الوقوف عند مستوياتها المختلفة؛ مثلما فعل كمال أبو ديب، ومحمد مفتاح الذي وظف هذا المنهج في كثير من دراساته في مجال النقد الأدبي منذ أوائل الثمانينيات.
    إن نص "بنية التوتر" للناقد المغر بي محمد مفتاح نموذجٌ واضح للدراسات التحليلية البنيوية، التي تعالج النص من الداخل، دون التفاتٍ إلى تأثيرات خارجيّاته. وتؤكد ذلك بعضُ مشيرات النص الدالّة، ولاسيما عنوانه وبدايته. وانطلاقاً من هاتين العَتَبَتيْن، نفترض أن يُفرِد مفتاح نصَّه هذا لتحليل بيت ابن عبدون الأندلسي تحليلاً بنيوياً، ودراسته من جوانبَ داخليةٍ مختلفة، للوقوف على مظاهر التوتر والخَرْق فيه. فكيف تم له ذلك؟ وما المستويات التي تناولها ؟ وإلى أي حدٍّ يستطيع المنهج البنيوي تقديم قراءة وافية للنص، قادرة على إضاءته والإحاطة به؟
       يتضح أن الدارس يعالج بيتاً واحداً لابن عبدون معالجة داخلية، تعامَل معه باعتباره بنية لغوية ذات مستويات متدرِّجة، وتوخّى كشْف تجلّيات التوتُّر فيه. إذ استهلّ  بالإفصاح عن مُنطلَقه ومنهاجه، ثم انتقل مباشرةً إلى مقاربته بادئاً بدراسة بنيته الصوتية، مُسجِّلاً هيْمنَة بعض الأصوات المتشاكِلة فيه، وهي أصوات الحلْق الدالة على معنيَي؛ الحزن والزَّجْر اللذين . وإلى جانب وظيفتها التعبيرية، فإن لتلك الأصوات وظيفةً أخرى تنظيميةً وإيقاعية. وبالنظر إلى سياق البيت وبُعْده الدلالي، فقد كان متوقعاً أن تحضر فيه، بكثافة، حركة الكسْرة، بوصفها صائتاً مناسباً للتعبير عن الانكسار والحزن والفاجعة، ولكنّ تلك الحركة قلّت في البيت؛ لأنه، في نظر الناقد، لا يدل على اللطف والصِّغَر. وقسّم مفتاح إيقاع البيت الداخليَّ، ولاسيما المؤسَّس على ظاهرة التَّكرار، إلى ما يكون فيه تكرار الأصوات حُرّاً اختيارياً، وإلى ما يكون فيه الشاعرُ مُلزَماً باحترام تقاليد القصيدة العربية القديمة في هذا الصَّدد.
       ولم يقفِ الناقد عند حُدود تحليل البيت من جانب أصواته (صوامت وصوائت)، بل انتقل إلى دراسته من الناحية المعجمية؛ فلاحَظ أن أكثر ألفاظه مُستقىً من حقل الرثاء المعروف في تاريخ الشعر العربي، وأن ثمة مبدأ تحكَّم فيها؛ هو "التداعي بالمقاربة".
وأكد مفتاح، عقب ذلك، أن تناوُل البيت صوتياً ومعجمياً فقط غيرُ كافٍ لفهْمه والوقوف على أسْراره، بل يلزم الانتقال إلى دراسته من الناحية التركيبية سواء النحوية أو البلاغية؛ فحاوَل تحليل بيت ابن عبْدون من هذه الزاوية، وأبرز مختلِف مظاهر التشويش والتوتر والخَرْق على مستوى تركيبة البيت، واجتهد في تعليله وتسْويغه.
        وقد اعتمد الناقد، في بناء نصه، خطة منهاجية استنباطية كشفت عن وحدة النص الموضوعية، وجعلتْه خاضعاً لتصْميم واضح؛ بحيث بدأه بطرْح عامّ قدّم خلاله منطلقه في تحليل البيت، ومنهجه في دراسته، ثم انتقل إلى مقاربته بدءاً بأصواته فمعجمِه ثم تركيبه، ولم يختمْه بخاتمة يضمِّنُها نتيجة مقاربته تلك!
      واستخدم لغة دقيقة تقريرية مباشرة خالية من التصوير الفني ومن أساليب التكلف، تلائم طبيعة النص، وتخدم مقصدية كاتبه. كما ضَمَّن نصَّه جملة وافرة من المفاهيم والمصطلحات النقدية التي تُمِتّ بصلةٍ إلى المنهج المعتمَد في تناوُل بيت ابن عبْدون؛ من مثل: التشاكل، والتبايُن، والبنية، والأصوات، والمعجم، والتركيب، والرتبة، والإسناد.
     كما توسّل بجُمَل طويلة أو مركّبة في الغالب الأعمّ، وبعددٍ من الأساليب الحِجاجية/ الاستدلالية؛ كالشرح والتفسير، والتعليل، والوصْف، والتوكيد، والقياس... وبكثيرٍ من الوسائل التي حققتْ للنص اتساقه وتماسكه، وأكْسبته قوة تأثيرية وإقناعية؛ كحروف العطف، والأسماء الموصولة، والإحالة بمختلِف أنواعها (وهي تتحقق، أساساً، بالضمائر وأسماء الإشارة)، وأسلوب الشرط، والتكرار، والتقابُل.
       وليس النص المدروس، هنا، متسِقاً فحسبُ، بل إنه منسجمٌ كذلك، وتحقق ذلك بروابطَ أخرى غير ظاهرة، وبمُراعاة مبادئ وعمليات جعلته قابلاً للفهْم والتأويل. فعلى مستوى السياق العام، فالنصُّ الماثلُ أمامَنا منسجمٌ يندرج في سياق انفتاح النقد المغربي المعاصر، وتأثره بالمناهج الحديثة ، ولاسيما  البنيوية. وعلى مستوى التأويل المحلّي، نجد في النص عدة عناصر تقيِّد الطاقة التأويلية لقارئه؛ كما في السطر الأول الذي حدّد فيه الناقد بعضَ معالم قراءته للبيت قيد التحليل. وعلى مستوى التشابُه، فانسجامُ هذا النص متحقق من خلال استحْضار جملة من التجارب النقدية العربية المعاصرة التي عمدت إلى معالجة النصوص بمنظار بنيوي (أبو ديب مثلاً). وعلى مستوى التغريض، نخلص إلى أن نقطة التمرْكُز التي يتمحْوَر حولها النص كلُّه، والتي تتجمّع حولها مختلف عناصره، هي بيت ابن عبدون الذي سعى مفتاح إلى إضاءَته وتحليله من ثلاث زوايا أساسية كما رأينا آنِفاً.
    انطلاقاً ممّا تقدّم كله، يتبيّن أن الكاتب قد حلل في نصه هذا بيتاً شعرياً من بعض مستوياته الداخلية، مستهدِفاً كشْف بنية التوتر فيه؛ وذلك باعتماد لغة نقدية مباشرة، وأسلوب حجاجي إقناعي، وجملة من الروابط الاتساقية والانسجامية.
     والواقعُ أن منهج الكاتب في تناول ذلك البيت، وإنْ كان قد أسْعَفه في تفكيكه ودراسته داخلياً من جوانب عدة، إلا أنه يظل قاصِراً غيرَ قادر على الإحاطة بالمقروء من جميع زواياه. فهو يقاربُ النص من حيث بنيته الداخلية وشكلُه، دون التفاتٍ إلى إحالاته ومرجعياته الخارجية التي لا يمكننا، بأي حال، إغفالها وتجاهلُ أثرها في تشكيل العمل الأدبي. بأسلوب آخر، فإن المنهجَ البنيوي يقرأ النص من الداخل تاركاً خارجَه، بخلاف المنهج الاجتماعي، مثلاً، الذي يقرؤه من الخارج بالأساس.
مصدر النص: "في رحاب اللغة العربية" للسنة الثانية، وهو مأخوذ من مؤلف محمد مفتاح: "تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)" ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.2، 1986، ص175-177، بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق